د. أسامة الديري
جعل الله -سبحانه وتعالى- لنا مواسم للخيرات، يزداد فيها المؤمن إيمانًا، ويتوبُ فيها العاصي إلى الله، فالسعيد من اغتنم هذه المواسم المباركة ومن هذه المواسم شهر المحرم، الذي يظلنا في هذه الأيام.
وهو أحد الأشهر الحرم التي قال الله -عز وجل- عنها : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ…) [التوبة: 36].
وقد فصلت السنة النبوية المشرفة هذه الأشهر الحرم، فعن أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ”.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن أفضل الأشهر الحرم هو شهر الله المحرم؛ قال الحسن البصري: “إن الله افتتح السنة بشهر حرام، وختمها بشهر حرام، فليس شهر في السنة، بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم”.
ومن فضائل شهر المحرم أن الله نجى فيه موسى وبني إسرائيل من فرعون وقومه؛ عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: “مَا هَذَا؟”! قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى شكرًا لله، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ”.
وليس صيامه -صلى الله عليه وسلم- له تصديقًا لليهود بمجرد قولهم، بل كان يصومه مع قريش قبل البعثة؛ لما في الصحيح من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصُومُهُ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَالَ: “مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ”.
وفي فضل الصيام في شهر المحرم قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: “أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ”.
فهذا الحديث فيه تصريح بأن المحرم هو أفضل الشهور لصوم التطوع، وقال القرطبي: “إنما كان صوم المحرم أفضل الصيام من أجل أنه أول السنة المستأنفة، فكان استفتاحها بالصوم الذي هو أفضل الأعمال”.
وانطلاقًا من هذا الحديث فإن أفضل الأعمال التي يمكن أن يقوم بها المسلم في شهر المحرم هو الصيام، فينبغي لكل مسلم أن يكثر من صيام التطوع فيه، ولنتذكر أن الصوم له فضله وثوابه العظيم عند الله -عز وجل-؛ فعن سهل -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟! فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ”.
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلا بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا”.
وعن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مُرْنِي بِأَمْرٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، قَالَ: “عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ؛ فَإِنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ”.
أما عن فضل صوم عاشوراء؛ فعن أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ”.
لقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على صوم يوم عاشوراء، وإرشاد أمته إلى صيام ذلك اليوم المبارك؛ لتنال المغفرة الربانية الكريمة، وذلك من خلال أحاديثٍ كثيرة؛ منها: عن الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- غَدَاةَ عَاشُـورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ: “مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ”. قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ”.
ونحن أيضًا ينبغي أن نعود أطفالنا الصغار فعل الخيرات، ونعلمهم اتباع سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- منذ نعومة أظفارهم، ولذا علينا أن نعرِّفهم فضل صوم رمضان والمحرم وغير ذلك من مواسم الخيرات، ونشجعهم على الصيام، وذلك بأن نعطيهم بعض الهدايا أو القليل من المال، ولنتذكر الحكمة المعروفة: أن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، فالتربية الصحيحة في سن الطفولة لها أثر كبير في حياة الإنسان.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: “مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ -يَوْمَ عَاشُورَاءَ- وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ”.
فانظر -أخي الكريم- إلى هذا الفضل الجزيل من رب كريم، واغتنم هذه الفرصة المباركة، التي قد لا تعود أبدًا، فالأعمار بيد الله، فاعقد النية من الآن على الإكثار من الصيام في شهر الله المحرم، وخاصة يوم عاشوراء، ولا تجعل هذا اليوم يمر عليك دون أن تصومه، إلا إذا كنت صاحب عذر شرعي كمرض أو كبر سن أو غير ذلك؛ فصوم يوم عاشوراء كما رأينا له فضل عظيم عند الله، فعلى كل مسلم أن يغتنم صوم هذا اليوم خالصًا لله وحده؛ رجاء أن يغفر الله له ذنوب السنة الماضية.