خطبة الجمعة 2022/10/28

لقد وصف الله تعالى خير أوليائه بأنهم يعبدونه على أحسن وجه؛ وأنهم يدعونه خوفـًا وطمعًا، رغبًا ورهبًا، يرجون رحمته ويخافون عذابه، فقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ (الإسراء، 57)، ﴿… إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ (الأنبياء، 90).

فابتغاء الوسيلة هو الشعور الذي نحتاجه ونحن نعبد رب العالمين، وهذا ما يدفع العبد للعمل؛ والخوف من الله تعالى هو حالة المؤمن حين يذنب ذنباً يسارع في الندم وطلب المغفرة من الله ولا يترك نفسه للشيطان حتى يصاب باليأس فيتمادى في المعصية. والرجاء هو حالة استبشار المؤمن بوعد الله له دون أن يغتر المؤمن بنفسه وينسى فضل ربه. وهذا يولد في أعماق قلب المؤمن حب الله وحسن عبادته! ويكون حب المؤمن لربه بالتوازن بين الخوف والرجاء! فعلاقة الحب تجعل المؤمن يفعل كل ما يستطيع حتى ترضي ربه سبحانه، وعبوديته بين الخوف والرجاء لأنه لا ينظر إلى عمله ولكن لرضاه سبحانه.

والخوف المحمود الصادق هو الذي يحول بين صاحبه وبين محارم الله، والرجاء المحمود الصادق هو الثقة برحمة الله وفضله وكرمه؛ وحب الله وابتغاء وجهه يحث على العمل ولذا قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف، 110).

ومن أمثلة التوازن بين الخوف والرجاء ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يجمع الله على عبد أمنين ولا خوفين، من خافه في الدنيا أمنه يوم القيامة، ومن أمنه في الدنيا أخافه يوم القيامة)). ومنها قول سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه: (لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله). وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أحد الصحابة وهو في حالة الاحتضار فسأله: ((كيف تجدك؟))، فقال: (أجدني أرجو رحمة ربي وأخاف عذابه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمع هذان في قلب عبد في هذا الموضع إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف)). فهم ذلك الصحابة رضي الله عنهم؛ ففي حياة الصحابة كذلك قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (لو نودي أن كل الناس في النار إلى واحدًا لظننت أنه عمر، ولو نودي أن كل الناس في الجنة إلا واحدًا لظننت أنه عمر).

فدين الله عدل ووسط فلا تجاوز لأن التجاوز يؤدي إلى اليأس أو إلى الغرور؛ فعلى المؤمن أن يكون متعادلاً بين الخوف والرجاء، فلا يغلب جانب الرجاء لئلا يؤدي به ذلك إلى الأمن من مكر الله فيكون من الذين قال الله فيهم: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (الأعراف، 99)، ولا يغلب جانب الخوف لئلا يؤدي به إلى اليأس من رحمة الله فيكون من الذين قال الله فيهم: ﴿قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ﴾ (الحجر، 56).

فحب الله تعالى يكمن في حسن عبادته وهو بين الخوف والرجاء ولذا قال بعض العلماء: الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى وتم طيرانه. وقال بعضهم: الراغب في سيره إلى الله تعالى بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر، وقد وصف الله سبحانه أنبياءه والصالحين من عباده أنهم يجمعون بين الخوف والرجاء فقال تعالى: ﴿… إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ (الأنبياء، 90).

واعلموا يا عباد الله… أن أقرب العباد إلى الله تعالى أحبهم له والحب يكمن في حسن عبادة الله تعالى، أما ابتغاء الوسيلة إليه فهو طلب القرب منه بالعبودية والمحبة، فذكر أهل العلم بأن المؤمنين قد تحلوا بمقامات الإيمان الثلاثة وهي: الحب والخوف والرجاء؛ فإن من أحب الله تقرب إليه، ومن رجاه أطاعه، ومن خافه ترك معصيته، وبذلك يكون قد اتخذ الأسباب الجالبة للثواب والمنجية من العقاب. وعباد الله الصالحين يتقربون إلى الله تعالى بحبه ويرجون رحمته ويخافون عذابه فهم في مقام كمال عبوديتهم لله تعالى وإجلالهم وتعظيمهم إياه.

فاتقوا الله يا عباد الله… وتجنبوا كبائر الذنوب الموبقات، واحترموا حرمات الله والمقدسات، وأدوا حق الله وحق الناس في السر والعلن؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ (الملك، 12). وخوف الله تعالى هو الذي يحملك على المبادرة بالتوبة، والدعاء لله تعالى هو الذي يحملك على الرجاء؛ قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (الشورى، 25). وكما أنه تعالى رحيم بعباده، فإنه غيور على محارمه، وفي كثير من الآيات قرن مغفرته بتوبة العبد من ذنوبه، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ (طه، 82)، وقرن الله تعالى مغفرته للذنوب بشدة عقابه للعصاة كما في قوله تعالى: ﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ (المؤمن، 3)، وقد حذرنا الله تعالى من موقف الخاسرين فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ  وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ  وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المنافقون، 9-11)، وأمر الله تعالى بالتوبة المذنبين في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾  (الزمر، 53).

فجعلنا الله وإياكم ممن يطيعه ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه!