د. اسامة الديري

 الحسنة والسيئة : كلمتان متقابلتان في القرآن الكريم، الحسنة تحمل معاني الإيمان والطاعة في القول والعمل ، والسيئة تحمل معاني العصيان في القول والعمل، ولذلك يجب أن يسود العفو عند المقدرة ومقابلة الإساءة بالإحسان؛ لأنه دليل على كمال التقوى وهو من الأخلاق النبوية العالية التي ينبغي أن تترسخ في المجتمع ليسود التراحم والمودة والرحمة بين الناس.

وقد حرص الإسلام على إقامة مجتمع متماسك قوامه التعاون بين أبناء المجتمع ليكون كالجسد الواحد قوياً عزيزاً تسوده أجواء المحبة والأخوة، لذلك وجّهنا الله سبحانه وتعالى ونبيه الكريم إلى ما فيه صلاح المجتمع ونهى عن كل ما فيه فرقة وخلاف، فأمرنا الله تعالى أن نعامل الناس بالحسنى وأن نختار الكلمة الطيبة التي تبني ولا تهدم، وتصلح ولا تفسد، وتجمع ولا تفرّق، وتسلك بنا سبل الهدى، وتجنبنا طريق الردى يقول تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ وهذا أمر بحاجة إلى ضبط النفس، والمصابرة والرغبة بما عند الله تعالى من الأجر والثواب العظيم، لأنه بعمله هذا يكون قد انتصر على الشيطان الذي يريد أن ينزغ بين الناس ويشيع بينهم العداوة والبغضاء، فالكلمة الطيبة هي شعار المؤمنين، ومنهاج الصالحين، جاء بها الأنبياء جميعاً بهداية وإرشاد من ربّ العالمين قال تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) .

  إن الحسنات يذهبن السيئات، لأن الحسنات نور والسيئات ظلمة، ولذلك أمرنا الله تعالى بأن ندفع السيئة بالتي هي أحسن بما يجعل أهل السيئات يوقنون بأن هذا الدين هو السعادة في الدارين، ولا شك أن التغافل عن الزلات والتجاوز عن السيئات، باب عظيم من أبواب السعادة والتصالح مع النفس والمجتمع، ويغلق أبواب الشرور والفتن والمشاحنات.

بل إن الله تعالى أمرنا أن نترفع عن ردّ الإساءة بمثلها، وأن يكون الإحسان هو سيد الموقف، فإذا صادف المسلم إساءة من أخيه فالواجب عليه أن يقابل ذلك بالصفح والعفو وكظم الغيظ، لأنّ ذلك من شأنه أن يزيل أسباب العداوة والبغضاء بين الناس، ويجعل مكان الاختلاف وفاقاً، وبدل التنازع ألفة، فقال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ)، وقال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: “أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم”، فلا يعني الإحسان إلى الناس ومسامحتهم، أنه دليل ضعف في الشخصية، بل هو دليل على قهر النفس عن إظهار آثار الغضب، وعلى العزيمة الراسخة التي لا يقدر عليها إلا الأتقياء،

فالدفع بالتي هي أحسن وكظم الغيظ في النفس خُلق الأتقياء الأخيار وبها يصل الإنسان الى أعلى المراتب عند الله عزّ وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الحُورِ شَاءَ» 

وقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الإحسان إلى المسيء ومواقفه صلى الله عليه وسلم مع صحابته الكرام في التغافل والإعراض عن زلاتهم وهفواتهم، شاهدة على عظيم رحمته ورفقه بالناس، وكانت من أهمّ الأسباب لتعلق قلوب المؤمنين بمحبة نبيهم صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) .

وها هو صلى الله عليه وسلم لا يرضَ أن يرد الكلمة السيئة بمثلها. فهذا رأس المنافقين فيها عبد الله بن سلول، يستأذن عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قتله، فيجيبه صلى الله عليه وسلم: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» .

فهذه هي الأخلاق النبوية العالية التي ينبغي أن تترسخ في المجتمع ليسود التراحم والمودة والرحمة بين الناس.

وإن من أعظم الأخلاق التي نحتاجها في زماننا خُلق التغافل عن الزلات والتجاوز عن السيئات، يقول الله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) ، فالإعراض عن الإساءة ومقابلتها بالإحسان باب عظيم من أبواب السعادة والتصالح مع النفس والمجتمع، وهو خُلقٌ يغلق أبواب الشرور والفتن والمشاحنات، وأما كثرة التدقيق الوقوف على كل زلةٍ وهفوة، سيجلب الشقاء على صاحبه، ويؤدي إلى وقوع العداوة والبغضاء بين الناس، وكثرة العتاب أمرٌ مذموم يُنفِّر الناس ويبعدهم، 

ويقول الإمام أحمد بن حنبل: “تسعة اعشار حُسن الخُلق في التغافل”.

” .

 ومما لا ريب فيه أن الأمم تعيش بأخلاقها، والقرآن الكريم والحديث الشريف هما معدن كل خير في الحياة، السيئة تُدفع بالحسنة، والذي يعاديك عامله بالتي أحسن، فإذا به يصبح ولياً حميماً لك، والتعامل بين الناس لا يخلو من محبة وبغضاء، وخير علاج لكل آفات اللسان والسلوك في حياتنا أن نتمثل ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم..) وبذلك ينتشر التسامح بين الناس، وتنقشع الكراهية ، وتصبح الأسرة متماسكة، والمجتمع مثالياً كحال مجتمع الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم نتعلم فهم القرآن الكريم وتطبيق السنة المشرفة في حياتنا.