خطبة الجمعة: 2022/7/29
د. أسامة الديري
في هذه الأيام يستذكر المسلمون ذكرى هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والتي تعد مبتدأً للتأريخ الإسلامي، فقد كانت أساساً لبناء هوية الأمة، وعنوان استقلالها، ومنطلق نهضتها، بعد أن عانى المسلمون أعواماً عديدة صابرين على الأذى، مُحتملين مرارة العيش، بين قومٍ حُجبت قلوبهم عن أنوار الهداية، وغشيت عيونهم عن رؤية الحق الأبلج، وإن كانت الديار هي خير البقاع عند الله، وأحبها إلى رسوله، إلا أن قلوب أهلها استوطن فيها الشرك حتى أصبحت كصخرة صماء، في صدور جرداء، أبت أن تستقبل بذور الإيمان، فلقي المسلمون على مدار ثلاثة عشر عاماً من العذاب الجسدي والنفسي، والحصار الاقتصادي، ما دفعهم إلى ترك تلك الديار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يردد: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» .
وقد شاءت حكمة الله تعالى أن تكون المدينة المنورة هي الأرض الخصبة لبناء الإيمان والإنسان، وبناء هوية الأمة الإسلامية وحضارتها، ثم العودة لاستكمال مسيرة البناء في مكة المكرمة قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ .
وبين مكة المكرمة، والمدينة المنورة، كانت رحلة الهجرة المباركة، التي جاءت بأحداثها العظيمة لتحيي في قلوب المؤمنين الأمل، وتزرع في نفوس اليائسين الرجاء، وتداوي جروح المُعذبين في شعاب مكة المكرمة، لقد خرجت تلك النُّخبة الطاهرة، لتعلّم الأمة الإسلامية إلى يوم القيامة أن الأمل معقود على وعد الله عزّ وجل، وأن ثقة المؤمن بربه راسخةٌ رسوخ الجبال، بأنه سيحقق وعده وينصر عباده، (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على زرع ثقافة الاستبشار والأمل عند الصحابة حتى في أحلك الظروف وأقساها، فهذا خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه، يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فيقول له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» .
وتتجدد روح الفأل الحسن عند النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة المباركة، مع صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ويدخلان في غار ثور، ورماح الأعداء تحيطهم، وسيوفهم ترصدهم، حتى قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلّا أن قال له: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما» متفق عليه، فتجلّت بذلك نصرة الله تعالى لنبيه الكريم، بحسن التوكل على الله، وحسن الظنّ به سبحانه وتعالى، يقول سبحانه وتعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)التوبة/ 40.
إن التوكل على الله تعالى، ونشر ثقافة التفاؤل في ساعات القلق والمحن أمر مطلوب شرعاً، بل هو منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذي دلنا عليه الله تعالى في القرآن الكريم، فالله تعالى يخاطب سيدنا نوح فيقول له: (فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) هود:36، وسيدنا يوسف عليه السلام يقول لأخيه (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ) يوسف: 69، وسيدنا يعقوب عليه السلام يقول لأبنائه: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) يوسف: 87، وسيدنا شعيب يخاطب موسى عليهما السلام: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) القصص:25، وكان آخرهم نبينا صلى الله عليه وسلم حين خاطب صاحبه فقال له، ثقة بالله، وحسن ظنٍ به: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
بل زاد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التفاؤل وحسن الظنّ بالله تعالى، فكان وهو يمشي في صحراء قاحلة ترقُب عيناه المستقبل السعيد ويَعِدُ من يُلاحقه بأهم ممتلكات ملوك ذلك الزمان، فقد وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم سراقة بن مالك بسواري كسرى، فالمسلم يحرص على نشر جو التفاؤل في مجتمعه، حتى في أحلك الظروف وأشدها، ولا ينمي شعور الإحباط والتشاؤم في مجتمعه، مع الحرص على النية الصالحة التي يبتغي فيها المسلم وجه الله تعالى، وهذا هو منهج النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ، وَالرِّفْعَةِ، وَالنَّصْرِ، وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمِ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ» مسند الإمام أحمد.
فنتعلم من الهجرة النبوية أن بناء الوطن يحتاج إلى قلوب مؤمنة تحتضنه، ورجال تفديه وتنصره، وتضحيات يؤثر بها الإنسان على نفسه، وإخلاص في الجهد والعمل لبناء أركانه، وقد ضرب الصحابة من المهاجرين والأنصار أروع الأمثلة في الوقوف صفاً واحداً متآخين متحابين: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الحشر: 9].
تعلمنا الهجرة النبوة الشريفة أن الأمّة التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم لم تقم على مشاعر وجدانية مجردة، ولم تقم على ردات فعل عشوائية، بل هي ثمرة تخطيط سليم، ومنهج قويم في التفكير، وتنظيمٍ للجهود، وتوظيفٍ للقدرات،