د. اسامة الديري

إن صلاح القلوب يكون بتوجهها إلى الله تعالى وخضوعها في محراب عبوديته سبحانه، وهو أجلّ الأعمال التي تفيض خيراتها، وتعمّ بركاتها على أفعال المؤمنين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ” ولا يكون هذا الصلاح إلا بالتوجه إلى الخالق العظيم، الذي خضعت له الرقاب، وسجدت لكبريائه الجباه، وذلّت لجبروته الصعاب، وعنت لعظمته الوجوه، ولانت لرحمته القلوب، إنه الله تعالى العلي العظيم، الذي وسع علمه كلّ شيء وقهرت قدرته السماوات والأرض، قال تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ .
إذا علم المؤمن عظمة خالقه سبحانه وتعالى أشرقت أنوار التقوى على قلبه، والتمس طرق قربه ومحبته، وابتعد عن معصيته ومخالفة امره، فمن كان بالله أعرف كان له أخوف.وتعظيم الله تعالى في النفوس يكون بتنزيه الله تعالى وصفاته وأفعاله عن كل ما لا يليق به، فالله أعلى وأجلّ عن مشابهة المخلوقين أو مشاكلتهم، قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ فالله تعالى ليس بحاجة إلى شيء من خلقه، بل الخلق جميعاً في حاجته مقهورون بذل عبودتيه، قال تعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ ، وقال تعالى: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ وقد حاد اقوام عن الخضوع لعظمة الله تعالى، وأدى بهم غرورهم واستكبارهم إلى الكفر بما جاء به الأنبياء من الدعوة إلى التوحيد والتسليم، فبشرهم الله تعالى بالعذاب الأليم، وأنهم من أصحاب الشمال في نار وحميم، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ، يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ، مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ،هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ، خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ، إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ، لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾
عباد الله: إن تعظيم الله تعالى في القلوب يورثها التواضع والتذلل والخضوع لله تعالى، واجتناب العُجب والغرور والاستكبار في الأرض بغير وجه حق، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: “الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار، وقال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ، فمن تأمل في عظيم خلق الله تعالى، وإحكامه لجميع الخلق ضمن نواميس وقوانين دقيقة، علم بأن وراء هذا الخلق ربّا حكيماً عظيماً، متصرف في شؤون الكون، لذلك كانت دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى التفكر في عظمة خلق الله تعالى كسبيل إلى الإيمان، فهذا سيدنا نوح عليه الصلاة والسلام ُيقرّع قومه أشد التقريع ويحذرهم من غضب الله وسخطه عليهم، لأنهم غفلوا عن تعظيم الله تعالى الذي أرشدهم إليه وهداهم إلى سبيله، من خلال الدعوى الى النظر في نواميس هذا الكون العظيم ومن خلال النظر في أنفسهم ومبدأ خلقهم، كما أخبر بذلك الله تعالى، فقال: ﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا، وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا، لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ﴾.قال ابن عباس: “قال: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته”.وكذلك فإن تعظيم الله تعالى في القلوب يؤدي إلى تصحيح العبادات، والإخلاص في القول والعمل، فالمؤمنون يسبحون الله تعالى وتلهج ألسنتهم بتعظيم ربهم عز وجل، في كلّ ركعة من ركعات الصلاة، فيجتمع بذلك ذلّ الخضوع من العباد، مع تعظيم المعبود، فتتجلى بذلك صورة العبودية الخالصة لله تعالى، فحين أنزل الله تعالى قوله ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “اجعَلوها في رُكوعِكم” سنن أبي داود، وقال عليه الصلاة والسلام: “أما الركوع فعظموا فيه الرب” .إن تعظيم الله عز وجل يكون بتعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، ومعرفة مكانته، واتباع سنته فنحن لم نعرف طريق الهداية والإيمان بالله تعالى إلا من خلال النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك كان حقّه عظيماً على أمته، يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ .واعلموا عباد الله أن تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون بتعظيم كلامه الشريف، ووجوب توقيره في كل ما قاله عليه الصلاة والسلام ووجوب اتباعه ومحبته، والطريق إلى محبة الله تعالى ورضوانه، تكون بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع منهجه القويم، يقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ .
ولا ننسى في هذه الأيام المباركة تعظيم الله عز وجل بالالتجاء إليه بالتضرع والدعاء بدعاء سيدنا يونس عليه السلام: ﴿ أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين﴾