د. اسامة الديري (خطبة الجمعة 2021/12/17)
الله يعلم أن حياة المجتمع لا تقوم إلا بوجود الأسرة التي تتكون على طاعة الله، وتنشأ كما أمر الله، فامتن الله
، علينا بمقومات الأسرة، وأنشأها لنا، وأمرنا بسياستها حسب الشريعة، ثم جعل لنا من الدين في شرائعه وأحكامه ما يسعد الأسرة، ويسبب تماسكها وقيامها على المبنى الشرعي الذي أراده الله ليكون المجتمع في النهاية مجتمعاً صالحاً،.فالأسرة محضن تربية، ومشاعر حب وحنان، وهي رحمة وتكافل،
ولكننا إذا نظرنا اليوم إلى حال الأسر لوجدنا كثيراً من الأسر تعيش في تعاسة وشقاء؛ للابتعاد عن طاعة ربها، وتضييع الأحكام، وسنضرب الأمثلة على ذلك، ولكننا لا بد أن نضرب مثالاً في البداية، من حال الأسر السعيدة، الأسر التي قامت على المنهج الإلهي، قال الله سبحانه:{ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}
، التجأ إلى الله بالدعاء، هذا ذكر الله لرحمة عبده زكريا، وهذه هي القصة: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءخَفِيًّا}” للإخلاص الذي عنده،{ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}
، ليست وراثة المال، لكن وراثة النبوة. “ترضى عنه، فبشره الله ثم بشرته الملائكة بولد سماه الله باسم لم يسم به أحد قبل من الناس قط، سماه يحيى: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ” هذه الأسرة المسلمة التقية النقية الطائعة لله، الأسرة كلها تتجه إلى العبادة، والمسارعة في مرضاة الله، {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} في حال الشدة والرخاء يتوجهون إلينا بالعبادة، {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} لم يكونوا منصرفين عن العبادة إلى هذه الدنيا فقط، وإنما كانوا يعبدون الله ، هكذا كانت الأسر.تخيل أسرة فيها داود وسليمان، داود الأب وسليمان الابن، كيف يكون حالها؟
ثم تعال معي الآن لننظر في حال هذه الأسر التعيسة والشقية المبثوثة في مجتمعات المسلمين اليوم.
هناك خطر داهم يتهدد المجتمعات ألا وهو التمزق الأسري، تفكك الأسرة صار علامة بارزة من علامات المجتمع، وسمة من سماته، وهذه نتيجة طبيعية للابتعاد عن الشريعة، وترك الدين.
كثير من الأسر متفككة من الداخل، وإن بدا لك من الخارج أن بيتاً يضمهم، لكن كل واحد منهم يعيش في عالمه الخاص، كل واحد منهم له همومه الخاصة، ومشاغله ومشكلاته التي لا يشاركه فيها أحد، لا يشعر بالتزام نحو الآخرين، ولا أنه ملزم بشيء، هذا مثال بسيط، لكن الأمثلة على تحطم الأسر، وانهيارها في المجتمع كثيرة، فمن أسباب تفكك الأسر ما قاله ﷺ:{كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت} كثير من الأولياء مضيعون لأولادهم، مضيعون لبيوتهم، لا يقومون بالحق، طلق امرأة، تزوج بأخرى، عنده أولاد من الأولى، لا يراهم ولا يهتم بامرهم، ولم ينفق عليهم، منهم من يعيش عند جدته، ومنهم يعيش عند أصحابه ، وهذا أخذه أهل السوء، فأشغلوه بالملذات، ينفق راتبه على السفريات والمحرمات، رمى المرأة وأولادها، ولا يأتي إلى البيت إلا نادراً، ولا يسأل عن أولاده
من أسباب انهيار الأسر، التسرع في الطلاق، وكثرة الطلاق، ولو قلنا: إن الطلاق اليوم من الأمور المنتشرة لأتفه الأسباب، وهذه الماديات التي فرقت بين الزوجين، وهذه المشكلات التافهة والشجار البغيض، لا الأب تربى على الإسلام، ولا الأم نشأت على الاخلاق كما ينبغي، ولذلك الشجار لأتفه الأسباب، والطلاق لأتفه الأسباب، والنتيجة انهيار الأسر، وتشرد الأولاد،
من أسباب انهيار الأسر فقدان العاطفة، لا يوجد حنان، ولا مشاعر صادقة في البيت، لا عطف من الأب، ولا حنان من الأم، الأب يأتي من الوظيفة يأكل ويشرب وينام، والأم موضات ومواعيد وأزياء وسهرات، ولا وقت لديها لإلقاء النظرة على أطفالها واحتياجاتهم ومشاكل العمل تؤثر في تلك النفسية العاطفية المرهفة الحساسة، والأب يقول: الأولاد لا ينقصهم شيء، الطعام والشراب موجود، والملابس نشتري لهم أفضل الملابس، وأدوات المدرسة أفخر الأنواع، وألعاب وكمبيوتر، لكن يا أيها الأب ينقصهم شيء واحد حنان، عاطفة، صلة أبوية، وتربية، هذا الذي ينقصهم.
أنت تنفق على الجسد، أنت تغذيه بالطعام، وتكسوه بالثياب، وتعطيهم ألعاباً، لكن ما أعطيتهم شيئاً مهماً يحتاجون إليه، ما أعطيتهم عطفاً ولا حناناً، ولا جلست معهم، ليس المهم أن تشتري الألعاب وترميها إليهم، لكن لاعبهم أنت ليحسوا أن هناك أباً موجود في البيت، تابعهم أنت ليحسوا بشخصيتك بينهم.
قال الله عن يحيى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} ، النبوة والعلم، وماذا آتيناه أيضاً؟ {وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا}، إذن آتيناه حناناً، إذن من منة الله على يحيى أنه آتاه حناناً، وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا، وحناناً عطفاً، وشفقة، ورحمة في قلبه، وَكَانَ تَقِيًّا، هذا الحنان الذي جعله كما قال الله: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا}
.
رزقنا الله وإياكم راحة البال وسعة الحال والبيت السعيد والزوجة الصالحة والولد الصالح.