د. أسامة الديري {خطبة الجمعة 2021/11/26}

من القضايا التي أبان الوحي حقيقتها قضية الإفلاس، عبر أسلوب المحاورة العلمية الهادئة التي درات بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه – رضي الله عنهم – والمبدوءة بتساؤل يسترعي الانتباه والاهتمام، ويستخرج المعلومة الخاطئة وتستبدل بالصحيحة؛ إرساءً لها وترسيخاً. فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه -، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، قال: «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: « إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار».

عباد الله.. إن الآخرة دار الجزاء وتوفية الحقوق واسترداد المظالم، وهي مرصد المفاليس؛ حين يقدمون بجلل من الصالحات: صلاة، وصيام، وزكاة، وغيرها مما هو دونها في الفضل، في يومٍ تشح النفوس بالحسنة وإن كانت أماً؛ فيرون ثواب تلك القربات تُرحَّل من سجل حسناتهم إلى صحف من ظلموهم وبخسوهم حقهم؛ فيذّكّر النَّصب الذي بذله والوقت الذي كابده والمال الذي أنفقه ومفارقته اللذائذ لأجل عمل تلك الصالحات، وبات ينتظر ثوابها في يوم تعز فيه الحسنة، ويراها بحسرة المرائر قد ذهبت لغيره بسبب ظلمه له. وتزداد تلك الحسرة إن فنيت حسناته، فتنقل سيئات المظلوم إلى صحيفته مع عدم مباشرته لها؛ فيحاسب عليها كما لو كان عاملاً لها. وتزداد تلك الحسرة حسرات حين تفنى الحسنات وتبقى السيئات؛ فيؤمر به إلى النار! والعياذ بالله! كان يؤمل ثواب عمله الصالح، فأفلس منه، وتحمل وزر غيره، وأُدخل النار. هذا هو الإفلاس الحق الذي تتم به الخسارة، ولا يمكن فيه التدارك! لا إفلاس المال الذي يقطع عناءه الموتُ، وقد يعقبه يسار.

 والمتأمل في أسباب الإفلاس التي ذكرها النبي – صلى الله عليه وسلم – يراها دائرة على سبب واحد وإن تنوعت صوره؛ ذلكم هو الاعتداء على حقوق الخلق وظلمهم؛ ” شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا “. وما ذاك إلا أن حقوق الخلق قائمة على المشاحة؛ فإن عفوا، وإلا فما ثمّ إلا القصاص في الآخرة، وإن كان ذلك في العجماوات، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لتؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء، من الشاة القرناء» رواه مسلم. والقصاص بين البشر في الآخرة في الحسنات والسيئات؛ أخذاً وإعطاءً، في يوم تظهر فيه السرائر، وتنطق الجوارح، ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ ، وقوله تعالى ﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾ ، وقوله﴿ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ﴾ .

أيها المؤمنون! إن الدنيا دار اختبار، وحقوق الخلق ميدان ابتلاء، ومن أعظم ما يحمل على التقصير بها والاستخفاف بأدائها إهمال محاسبة النفس وغياب استحضار الحساب الأخروي؛ وذاك ما حمل الظالمين على العتو والبغي على العباد كما قال الله عن فرعون وجنده: ﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ﴾.

 والاغترار بالقوة والقدرة والأمن من المحاسبة الدنيوية من أسباب الاستخفاف بالحقوق، كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عمّاله: ” أمّا بعد، فإذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم فاذكر قدرة الله عليك وفناء ما تؤتي إليهم وبقاء ما يؤتون إليك، والسلام “. 

أيها المؤمنون!وحتى يسلم المرء من مغبة الإفلاس في الآخرة؛ فإن واجباً عليه أن يكون يقظاً تجاه حقوق الخلق، مرهف الإحساس نحوها وإن كانت من البهائم؛ ألم تعذب امرأة في النار بسبب ظلمها هرة؛ لم تطعمها، ولم تطلقها لتأكل من خشاش الأرض؟!. كلم رجلٌ الخليفةَ الراشد عمر بن عبدالعزيز يوما حتى أغضبه، فهمَّ به عمر ثم أمسك نفسه، وقال للرجل: ” أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان، فأنال منك ما تناله مني غدا؟ قم – عافاك الله -؛ لا حاجة لنا في مقاولتك “.

والاستحلال من المظالم في الدنيا خير من قصاصها في الآخرة، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: « من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها؛ فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه » رواه البخاري. ومعاملة الخلق بالعفو والصفح – مع التوقي من ظلمهم والسعي في استحلالهم – من أسباب السلامة من مغبة الإفلاس، يقول الله – تعالى -: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ . قال ابن القيم: ” اللهُ – عز وجل – يعامل العبدَ في ذنوبه بمثل ما يعامل به العبدُ الناسَ في ذنوبهم “.