د. أسامة الديري (خطبة الجمعة 2021/10/1)
من رحمة الله عز وجل ببني آدم أن فتح لهم سبل الطاعات ؛ لتستمر الحسنات التي تمحو السيئات وترفع الدرجات بعد الممات، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا مات ابنُ آدم انقطع عمله إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له» رواه مسلم، هذا الحديث النبوي يحمل رسالة الرحمة لكل العباد، وأول هذه الأعمال الصالحة أن يتنافس المسلمون بتقديم الصدقات الجارية التي تنفع صاحبها في الدنيا، ويدوم نفعها بعد الموت حتى تقوم الساعة. ولا بد أن تكون نية المتصدق خالصة لوجه الله تعالى، لا يتصدق رياءً ولا سمعة.
إن رحلةَ المسلم في هذه الحياة ما هي إلا أيام معدودة، وآجال مكتوبة، يتزودُ المسلم منها بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى علّام الغيوب، وترفع درجته في دار البقاء والخلود، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) .
ومما لا ريب فيه أن الإنسان مخلوق ضعيف، قد ينزغه هوى النفس، أو تجرفه وساوس الشيطان فتحرفه عن الطريق المستقيم، وفد يُقصر به عمله، ولا يدرك عمره لتصحيح مساره، وحتى إن كان من الصالحين فإنه يتمنى لو يعود إلى الحياة الدنيا فيزداد عبادة واجتهاداً لبلوغ الدرجات العُلا عند الله تعالى.
وقد أفاد الحديث الشريف ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث ) نافعة: أولها : الصدقة الجارية، وهي الأوقاف التي يتركها صاحبها في منفعة المسلمين، وسميت بالصدقة الجارية لأن نفعها وثوابها مستمر، ويدوم بعد وفاة المتصدق بها، فيبقى ثوابها مستمراً له ما دامت باقية، يقول تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، فالإنسان الحكيم من لم يحرم نفسه من الثواب بعد موته، بل جعل من ماله ما يعود عليه بالنفع بعد رحيله عن الدنيا ليصله الأجر والثواب، في وقت ينساه فيه الأهل والأحبة والأصدقاء ويصبح أثراً بعد عين، وذلك الذي يجعل من ماله وقفاً في سبيل الله تعالى كوضعه لبناء مسجد أو صيانته، أو بناء مدرسة أو مركز، أو أن يوقف شيئا ًمن عقاره، أو يخصص مبلغاً أو مشروعاً للإنفاق على طلبة العلم، كل ذلك من الصدقات الجارية التي ينبغي للمسلم المحافظة عليها، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه عِلمًا علَّمَه ونشرَه وولدًا صالحًا ترَكَه ومُصحفًا ورَّثَه أو مسجِدًا بناهُ أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ أو نَهرًا أجراهُ أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ » .
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتنافسون في تحصيل الأجر والثواب المستمر من خلال إيقاف أنفس أموالهم في سبيل الله، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا»، متفق عليه، وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه يشتري بئر رومة ويجعله وقفاً للمسلمين بعد أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الجَنَّةُ» صحيح البخاري،
.
ومن الأمور التي يلحق ثوابها المسلم بعد موته، علم ينتفع به ، إنه ميراث النبوة التي يلحق ثوابُها المسلمَ بعد موته، فإن معرفة الله تعالى وطاعته ثمرة من ثمرات العلم الذي يتبعه العمل الصالح، ومن هذا العلم ما تنشره مواقع التواصل الاجتماعي من مواعظ ونصائح ودروس ، فعلى ابن آدم في هذا العصر أن يستفيد من التقنيات ، وأن لا ينشر إلاّ ما فيه الخير العميم للناس أجمعين، وأن يتجنب الإشاعات التي تثير الخلافات ، فقد أمرنا ربنا تبارك وتعالى بالاعتصام ونهانا عن التفرق في قوله تعالى( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا).
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء: « وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا، ولا درهما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» سنن الترمذي، فتوريث العلم يكون من عالم يترك كتاباً للقراءة، أو اختراعاً يفيد البشرية، أو دواءً يعالج المرضى.
الولد الصالح سعادة لوالديه في الدارين، ففي الدنيا يضفي البهجة والسرور، وبعد موت والديه أو أحدهما يكثر من الدعاء لهما ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ الإسراء: 24، وهذا يتطلب أن يعتني المسلم بتربية أولاده التربية الصالحة ليكونوا ذخراً له بعد وفاته. وقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة بتربية أولادهم ليكونوا خير خلف لخير سلف، وهو مما ينبغي أن نقتفي آثارهم في التربية الإيمانية التي تثمر الصالحين والصالحات من البنين والبنات.
إن الولد الصالح يمتد نفعه وخيره على المجتمع، ويكون سبباً في ثناء الناس على من رباه واعتنى به، مما يؤدي إلى دعاء الناس له بالرحمة والمغفرة على هذه التربية الصالحة ، قال الله تعالى: ﴿والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما﴾ . وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: «نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما» سنن أبي داود.
إن الإنسان مدني بطبعه يعيش مع بني جنسه على أرض خلقها الله تعالى مستقراً له ولغيره، فمن الأعمال الصالحة أن يحسن ابن آدم التصرف مع البيئة المحيطة به، لأنه يتنسم هواءها، ويقطف من ثمارها، وأعماله الصالحة على ظهرها تنفعه إذا صار في بطنها ، فلنحافظ على مائها وهوائها وتربتها ، ونحافظ على غاباتها نظيفه ، وهذه مسؤولية شرعية، قال عليه الصلاة والسلام: ( إماطة الأذى عن الطريق صدقة ) أخرجه مسلم
ولنحافظ على دعاء سيدنا يونس عليه الصلاة السلام ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) وهذا مما ينتفع به المسلم في حياته ، وإذا علّمه لغيره فإنه من العلم النافع الذي يستمر بعد موته.